لماذا كل هذه الضجة حول العمل عن بعد؟

في عام 2013، تأسست شركة البرمجيات الرائدة جيت لاب “GitLab” بفريق عمل مكون من 3 أشخاص في ثلاث دول مختلفة هي هولندا وصربيا وأوكرانيا، في ذلك الوقت، لم يكن منطقيًا أبدًا أن يتبادل الثلاثة السفر من دولة لأخرى كي يستمر عملهم، ونظرًا لطبيعة عملهم الذي كان يتطلب ضرورة الاتصال بالإنترنت طوال الوقت، قرروا تبني نظام العمل عن بعد بسهولة.

بعد فترة وجيزة، قاموا بتعيين موظفين آخرين من هولندا، التي كانت يقع فيها المقر الرئيسي للشركة، لكن وجد الموظفون الجدد أنهم يستغرقون قرابة ساعة ونصف في الانتقال من المنزل إلى مقر العمل، فقرروا العمل من منازلهم أيضًا، مع نمو الشركة واستمرار تعيين موظفين جدد، كانوا سرعان ما يتحولون إلى العمل من بعيد، بعد عملهم لأيام قليلة في مقر الشركة، حتى موظفو المبيعات، الذين تقتضي مهامهم العمل كفريق، وتوطيد علاقة الصداقة مع بعضهم البعض، قرروا أيضًا العمل عن بعد أيضًا.

مع توسع الشركة الكبير، قرر المؤسسون إغلاق جميع مكاتبها وتبني أسلوب العمل من بعيد بشكل كامل، بعد اختيار أغلبية الموظفين العمل عن بعد. أما الآن، مع وجود أكثر من 1200 موظف يعملون من أكثر من 65 دولة حول العالم، أصبحت (جيت لاب) أكبر شركة تعمل عن بعد بشكل كامل عالميًا. ليس هذا وحسب، فقد نمت الشركة خلال آخر أربع سنوات بمعدل 50 ضعفًا، وبلغت قيمتها السوقية 2.75 مليار دولار أمريكي، حيث يدّر فريق عملها أرباحًا سنوية تزيد على 100 مليون دولار.

العمل عن بعد ليس شيئًا جديدًا:

إذا كان العمل من المنزل بالنسبة لك مصطلحات جديدة لم تسمع بها قبل أزمة كورونا الحالية، فالحقيقة هي أن العمل عن بعد موجود بشكل كبير وقائم منذ ثمانينيات القرن الماضي، بل وأثبت نجاحه منذ سنوات طويلة. فتشير الإحصاءات إلى أن العمل عن بعد قد نما بنسبة 159٪ في السنوات الـ12 الماضية.

وتضم قائمة الشركات التي تعتمد على نظام العمل من بعيد، سواء بشكل كامل أو جزئي، أسماء كبرى، مثل: جوجل وديل وأمازون وزيروكس وأمريكان إكسبرس، وغيرها الكثير مثل: شركة تطوير الويب أوتوماتيك Automattic المسؤولة عن تطوير نظام إدارة المحتوى الشهير ووردبريس، التي تعتمد على نظام العمل عن بعد بشكل كامل منذ عام 2017.

تضم المنطقة العربية هي الأخرى عدد لا بأس به من الشركات التقنية الرائدة والمؤسسات الحكومية والخاصة، التي تعتمد على نظام العمل عن بعد. وأحد أبرز هذه الأمثلة هي شركة حسوب المتخصصة بتطوير حلول الويب للمستخدمين العرب، التي تدير أكبر موقعين للعمل الحر والخدمات المصغرة عربيًا هما: مستقل و خمسات. حيث تعتمد حسوب على نظام العمل عن بعد بشكل كامل، ويعمل فريق عملها المكون من قرابة 50 موظفًا من 10 دول مختلفة.

السؤال الآن، كيف تستطيع الشركات ممارسة أعمالها بسلاسة وموظفوها يعملون من منازلهم؟

الإجابة يمكن اختصارها في نقطة جوهرية ألا وهي ثورة الاتصالات وما تبعها من تحول رقمي. خلال العقدين الماضيين، تطورت التكنولوجيا الرقمية بشكل مذهل، مما دفع جميع المؤسسات والشركات بلا استثناء إلى التحول الرقمي شيئًا فشيئًا، حتى ولو جزئيًا. الآن، وبفضل هذا التطوّر أصبح التواصل وإدارة المهام عن بعد أكثر سهولة من أي وقت مضى.

على سبيل المثال، تستطيع فرق العمل الموزعة، أو التي تعمل عن بعد، تبادل الملفات ومشاركتها بكافة أنواعها عبر حزمة التطبيقات السحابية، وأدوات البرمجيات التعاونية لجوجل G Suite، أو تلك الخاصة بمايكروسوفت. كما يمكنهم عقد لقاءات واجتماعات العمل عبر الإنترنت بسهولة باستخدام برامج وتطبيقات اجتماعات الفيديو، مثل سكايب وزووم وغيرها.

من الحلول الأخرى الناجمة عن التطوّر الرقمي، التي تساعد الشركات على تبني هذا الأسلوب من العمل، هي مواقع التوظيف عن بعد، مثل موقع بعيد، الذي يساعد الشركات وأصحاب المشاريع ممن يريدون اعتماد العمل عن بعد، على توظيف أفضل الخبرات والكفاءات من أي مكان. آخرًا أطلق الموقع دليل العمل عن بعد، الذي يشارك فيه خبرات تأسيس وإدارة فريق عمل عن بعد.

لكن لماذا كل هذه الضجة حول العمل عن بعد الآن رغم تطبيقه منذ وقت بعيد؟ 

في مقال كتبه رجل الأعمال الملياردير الأمريكي (ريتشارد برانسون) عام 2013، أشار إلى أنه مع تطور التكنولوجيا سيختفي نظام العمل التقليدي، وسوف تتحول المكاتب إلى شيء من الماضي، لدرجة أنه بعد 20 سنة من ذلك الوقت، سوف يتساءل الناس بتعجب عن السبب الذي جعل المكاتب موجودة من قبل.

الحقيقة أنه رغم اعتماد آلاف الشركات على نظام العمل من بعيد منذ وقت طويل، إلا أن الأزمة الحالية دفعت فئات مختلفة من الشركات والمؤسسات وحتى الموظفين – لم تكن تعلّم شيئًا عن العمل عن بعد – إلى تجربة هذا العمل ذي الطبيعة المختلفة جذريًا عن العمل التقليدي. هذه الفئات التي تختبر العمل عن بعد للمرة الأولى هي المسؤولة عن إثارة هذه الضجة الآن.، لكن رغم ذلك، يحقق العمل عن بعد فوائد مهمة للشركات والموظفين معًا، هذه الفوائد هي التي دفعت الكثير من الشركات لاعتماده منذ وقت طويل.

بالنسبة للشركات:

  • يقلل العمل من المنزل نفقات التشغيل الخاصة بمقرات العمل والمكاتب، ويوفر تكاليف الكهرباء والهاتف ومواقف السيارات، وغيرها الكثير.
  • يؤدي إلى زيادة الإنتاجية؛ لأن الموظف يصبح أكثر قدرة على العمل في أوقات العطلة وبعد ساعات العمل الرسمية، وأقل عرضة لطلب الإجازات، وأكثر قدرة على التركيز في العمل بعيدا عن دردشات الزملاء.
  • يساعد على الاستفادة من الكوادر البعيدة عن مقر الشركة، دون الحاجة لاستقدام العمالة أو الدخول في دائرة من الإجراءات الإدارية أو القانونية، وجذب الكوادر الماهرة أيضا الطامحة إلى ظروف عمل مرنة.

لا ننسى أن جيل الألفية ممن ولدوا في منتصف الثمانينات والتسعينات، الذين يشكلون نصف القوى العاملة حاليا، يتجهون إلى البحث عن بدائل عمل أفضل، في ظل خبراتهم التكنولوجية التي يسعون إلى تسخيرها في حياتهم العملية. لذلك، أصبح العمل عن بعد هو الخيار الأفضل بالنسبة لهم؛ لأنه يساعدهم على تحقيق التوازن بين الحياة والعمل، والحصول على ظروف عمل مرنة توفر لهم بعض الوقت الشخصي بدلًا من الانغماس في العمل طوال الوقت.

أما بالنسبة للموظفين:

  • يساعد العمل من المنزل الموظفين على حرية اختيار مكان العمل، سواء من المنزل أو المقهى، أو مساحات العمل المشتركة.
  • يمنح العمل من المنزل المرونة في تحديد ساعات العمل المناسبة لجداول الموظفين الزمنية.
  • يوفر هذا النظام من العمل وقت ومصاريف الانتقال من العمل وإليه، بالإضافة إلى تهيئة أجواء عمل هادئة تساعده على الإنتاجية العالية.

من المؤكد أن هذا النظام من العمل لا يناسب كل الوظائف، ولكن إذا كانت طبيعة العمل تسمح بإمكانية تنفيذ المهام عبر الإنترنت وإذا كان الموظفون بالفعل يجلسون طول اليوم أمام جهاز الحاسب. فتبني أسلوب العمل من بعيد هو أمر قابل للتنفيذ.

كذلك، إذا طلب الموظفون العمل من المنزل، أو واجهتَ صعوبةً في العثور على الكفاءات المناسبة، أو بدأ المنافسون في استقطاب الكفاءات البعيدة، فالحاجة للعمل من المنزل ستكون أكبر.

تبنّي ثقافة العمل من بعيد لا يتم بين يوم وليلة، ولكن الأفضل أن يتم التدرج في الانتقال إليه من حيث الوظائف وعدد الموظفين لقياس النتائج، والتوجه نحوه بنجاح ودون ارتكاب الكثير من الأخطاء.

العمل من بعيد يبشّر بعصر جديد قادم للحياة المهنية، خاصة مع الأخذ بالاعتبار أن العملية الإدارية في ظله تكون أكثر كفاءة بسبب سهولة التواصل المباشر بين الموظفين وإدارتهم، بغض النظر عن مكان وجود الطرفين.

ففي الوقت الذي ستُغلِق فيه المكاتب أبوابها مع نهاية اليوم، تبقى الشركات بحاجة إلى من يتابع عملاءها ويستمر في تقديم أفضل خدمات بغض النظر عن نهاية أوقات الدوام، وهو الشيء الذي يؤكد الحاجة لأساليب عمل أكثر مرونة من الأساليب التقليدية المرتبطة بساعات عمل المكاتب فقط، وهو ما يتوفر في العمل عن بعد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى