حظرت شركة الفضاء (سبيس إكس) SpaceX استخدام منصة (Zoom)، وكذلك الحال بالنسبة لجوجل وآبل ووكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) NASA ومدارس مدينة نيويورك، وحذر مكتب التحقيقات الفدرالي (FBI) في وقت سابق من إمكانية اختراق المؤتمرات والفصول الدراسية المنعقدة عبر منصة (Zoom)، وحذر خبراء الأمن من أن الثغرات في التكنولوجيا تجعل بيانات المستخدم عرضة للاستغلال، واعترف الرئيس التنفيذي لشركة (Zoom) (إريك يوان) Eric Yuan علنًا بأنه أخطأ بشأن الخصوصية والأمان.
وفي ظل التعامل مع العيوب الأمنية في منصة (Zoom)، فإن هناك سؤالًا أكبر يجب التعامل معه، يتمثل بمن يسيطر على المنصة؟ ومن المستفيد منها؟ حيث تلقّت المنصة تمويلها الأساسي من (TSVC)، التي تقدم نفسها كشركة رأسمال استثماري يقع مقرها في لوس ألتوس، لكنها تستثمر بأموال الشركة الصينية المملوكة للدولة (Tsinghua Holdings).
وأسس منصة (Zoom) ويديرها رجل أعمال صيني، وطورت عبر الشركات الفرعية التي تتخذ من الصين مقراً لها، ويبدو أن خوادمها في الصين تولد أيضًا مفاتيح التشفير (AES-128)، التي يُستخدم بعضها للاجتماعات بين المشاركين في أمريكا الشمالية، ومن المحتمل أن تُجبر القوانين الصينية المنصة على مشاركة مفاتيح التشفير الصينية.
وتحظى المنصة بقيمة كبيرة بالنسبة للصين، إذ ينتهج الحزب الشيوعي الصيني (CCP) إستراتيجية كبرى منذ عقود طويلة لتطوير الشبكات والمنصات العالمية والاستيلاء عليها، وهو أمر مهم لتحديد المعايير العالمية، بحيث إن الإمساك بالمعايير يسمح بالسيطرة الدائمة على الموارد الدولية والمعلومات، مما يعني فرض نظام جيوسياسي عالمي بالقوة.
وقد أيدت بكين رسميًا هذا الطموح منذ انضمامها عام 2001 إلى منظمة التجارة العالمية، عندما أطلقت الإستراتيجية الوطنية للتوحيد القياسي، ويحاول الحزب الشيوعي الصيني الآن وضع هذه الخطة موضع التنفيذ، إذ إن بكين على وشك إطلاق “معايير الصين 2035″، وهي خطة صناعية لكتابة القواعد الدولية.
وتعد خطة “معايير الصين 2035” الخليفة لمبادرة “صنع في الصين 2025″، وهي خطة أكبر وأكثر جرأة للعقد القادم للسيطرة على تصنيع السلع العالمية، لكن يجب أولًا على خطة “معايير الصين 2035” وضع المعايير التي تحدد الإنتاج والتبادل والاستهلاك.
وأكملت بكين في بداية شهر مارس عامين من التخطيط لخطة “معايير الصين 2035″، ومن المتوقع أن تصدر الوثيقة الإستراتيجية النهائية هذا العام، وبالرغم من أن تفاصيل الخطة لم يتم نشرها بعد، إلا أن النية ومجالات التركيز أصبحت واضحة، حيث أصدرت اللجنة الوطنية للتوحيد القياسي تقريرها الأولي للعام المقبل المسمى “النقاط الرئيسية لأعمال التقييس الوطنية في عام 2020”.
ووفقًا لشركة (Horizon) الاستشارية، فإن التقرير يتضمن تعليمات لاغتنام الفرصة التي يصنعها انتشار فيروس كورونا المستجد، عبر نشر نظام المعلومات الصيني، واستغلال الصناعة العالمية، عبر الاستيلاء على المجال الصناعي لتكنولوجيا إنترنت الأشياء، وتحديد الجيل القادم من البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا الحيوية، وتصدير نظام الائتمان الاجتماعي الصيني.
وترى الصين أن العالم على وشك التحول، وأوضح (داي هونغ) Dai Hong، من اللجنة الوطنية للتوحيد القياسي، في عام 2018 أن الصناعة والتكنولوجيا والابتكار تتطور بسرعة، وما زالت المعايير التقنية العالمية قيد التكوين، وهذا يمنح الصناعة والمعايير في الصين الفرصة لتجاوز العالم.
وكان داي يتحدث في افتتاح مرحلة التخطيط لخطة “معايير الصين 2035″، وقال: “إن الخطة ستركز على الدوائر المتكاملة والواقع الافتراضي والصحة الذكية، والمكونات الرئيسية لشبكة الجيل الخامس، وإنترنت الأشياء، والربط البيني لمعدات تكنولوجيا المعلومات والطاقة الكهروضوئية الشمسية، مع التركيز طوال الوقت على تدويل المعايير الصينية”.
وتركز خطة “معايير الصين 2035” على وضع المعايير في الصناعات الناشئة، مثل تصنيع المعدات المتطورة والمركبات غير المأهولة، والإنترنت الصناعي والأمن السيبراني والطاقة الجديدة والصناعة البيئية، بحيث تتماشى هذه المجالات مع مجالات تركيز مبادرة “صنع في الصين 2025″، بحيث تصبح بكين مستعدة لتحديد قواعدها بعد أن حصلت على موطئ قدم لها في المجالات المادية المستهدفة.
وتحتكر شركة (DJI) تقريبًا أنظمة الطائرات التي بدون طيار التجارية، وتعتزم اللجنة الوطنية للتوحيد القياسي الآن صياغة المعايير الدولية لتصنيف أنظمة الطائرات التي بدون طيار المدنية، وذلك في سبيل مساعدة صناعة الطائرات التي بدون طيار المحلية.
وتعمل خطة “المعايير الصينية 2035” على تسريع نشر بكين للأنظمة الافتراضية والربط بين تلك الصناعات، مثل نظام الائتمان الاجتماعي ومنصة النقل اللوجستي الوطنية، التي تسيطر عليها الدولة المعروفة باسم (LOGINK) ومعايير المنتجات الطبية والاستهلاكية.
وتوضح النقاط الرئيسية النية في إعطاء اللجان الوطنية الصينية دورًا كاملًا فيما يتعلق بالتنظيم والتنسيق ضمن منظمة المعايير الدولية (ISO) واللجنة الدولية الكهروتقنية (IEC)، وتوضح التقارير الصادرة عن اللجنة الوطنية للتوحيد القياسي أن إعطاء دور كامل يعني تشكيل الإستراتيجيات والسياسات والقواعد.
وتعمل بكين على تعزيز التدويل من خلال الشراكات الثنائية والإقليمية القائمة على المعايير، مثل اتفاقية التعاون في مجال التقييس بين الصين ونيبال ورابطة أمم جنوب شرق آسيا، والجهود الناشئة مع ألمانيا والمملكة المتحدة وكندا وغيرها.
وتنبع خطة المعايير الصينية من تقدم إستراتيجي واضح ومتعمد، إذ أمضت بكين العقدين الماضيين في تأسيس موطئ قدم مؤثر في الهيئات المتعددة الأطراف والمناطق الصناعية المستهدفة، وتستخدم الآن موطئ القدم لوضع قواعدها معهم من أجل تحديد البنية التحتية لعالم المستقبل.
ووفقًا للتخطيط الإستراتيجي للصين، فإن هذا ما تعنيه القوة في عصر العولمة، إذ لم تعد اللعبة الإستراتيجية، بين القوى الكبرى، تقتصر على المنافسة على مستوى السوق أو التفوق التكنولوجي، بل تتعلق بالمنافسة أكثر حول تصميم النظام ووضع القواعد.
ويبدو أن موقع الصين الإستراتيجي محجوب عن الرؤية، إذ لا يُظهر محرك بحث جوجل الكثير من المعلومات عن “معايير الصين 2035″، وكان هذا الأمر بمثابة عجز خطير قبل كارثة انتشار فيروس كورونا المستجد، وقد أوجدت الإجراءات العالمية لمواجهة الفيروس ما يسميه الحزب الشيوعي الصيني فرصة لتسريع هجومها الإستراتيجي.
وبينما يتصدى العالم لكارثة الفيروس، فإن هناك حاجة إلى مقاومة استغلال بكين له، والاعتراف بدور المعايير وطريقة استغلالها من الحزب الشيوعي الصيني وتحويلها إلى سلاح، والتنافس على إيجاد البدائل الآمنة المعتمدة على المعايير، وحماية تلك البدائل من تأثير بكين، أو التخلي كليًا عن الأمن والخصوصية والملكية والحرية.